جائزة «رجل التراث» لهذا العام.. وإعادة الاعتبار للثقافة التراثية

يصدر هذا العدد من مجلة (أكتوبر) قبل يومين من اختتام فعاليات أيام الشارقة التراثية في دورتها العشرين (1 مارس 21 مارس 2023). ولم يعد خافيا أن أيام الشارقة قد صارت بر منافس هي المناسبة الكرنفالية التراثية الأكبر والأهم الآن في العالم العربي ور أبالغ لو قلت في العالم أجمع، صارت أيام الشارقة التراثية المناسبة الفولكلورية الأشمل والأوسع التي تستقطب كل المعنيين بالتراث المادي منه والر مادي على السواء من كل أنحاء العالم. لدي الكثير لأقوله عن عبد العزيز المسلم صديقا ومثقفا وشاعرا وفولكلوريا ورحالة.. إلخ، لدي الكثير جدا. لكني سأكتفى بنموذج واحد أعرض له هنا فى حدود المساحة المتاحة، وهو عمله الميداني الكبير «موسوعة الكائنات الخرافية فى الإمارات» ذلك الكتاب المذهل الذي صدر فى أكثر من طبعة وترجم إلى العديد من اللغات الأجنبية لريادته وقيمته المرجعية والميدانية على السواء. الكتاب عنوانه الكامل «موسوعة الكائنات الخرافية فى الإمارات. دراسة فى المخيلة الشعبية»، وكان من حظي أنني قرأت هذا الكتاب فى طبعتيه الأوليين عن معهد الشارقة للتراث؛ لكن هذه الطبعة المزيدة والمنقحة (الثالثة الصادرة عن دار كلمن) تتميز عن سابقتيها بإخراج بصري جميل وزاه ولوحات فنية ورسومات مصاحبة للنص تجعله هو فى ذاته تحفة فنية أنيقة جديرة بالاقتناء. كما تتميز هذه الطبعة عن سابقتيها بأنها منقحة مما شا الطبعتين السابقتين من بعض الأخطاء المطبعية السابقة، وبعض الأخطاء والهنات الأخرى هنا أو هناك، مع إضافات وزوائد معلوماتية مهمة. وفى ٣٥٨ صفحة من القطع الكبير تأتي هذه الموسوعة التراثية الثرية؛ قطعة عزيزة وغالية من تراثنا العربي الشفاهي؛ حامل أنساق القيم والثقافة و«رؤية العالم» إن جاز التعبير فى هذه البقعة من الأرض التي شهدت وفور وتأصيل وغرس قيم العربي الأصيل الذي لم يكن بينه وبين طبيعته وبيئته وسيط، فعاش فيها وتعايش معها، واستقر بها، وأنتج ثقافته التي جاء هذا الكتاب ليحفظ قطعة عزيزة منها بل ولذلك أيضا لم يكن مستغربا أن يتم اختيار رئيس معهد الشارقة للتراث الدكتور عبد العزيز المسلم رجل التراث العربي للعام ٢٠٢٣ تقديرا لجهوده ونشاطه المذهل والمكثف على مدى السنوات التي ترأس فيها معهد الشارقة للتراث، والسنوات الطويلة التي أمضاها فى العمل الرسمي بمو ت سسا” الثقافة والتراث بالشارقة. وأستطيع أن أقول بثقة ومعرفة عن قرب بالرجل وإنجازه الأكاديمي والعلمي والمؤسساتي على السواء إنه أحد مؤسسي وصانعي النهضة التي تشهدها الإمارات العربية فى السنوات العشر الأخيرة، لا يقل عمل عبد العزيز المسلم عن عمل الرواد الكبار الذي أخذوا على عاتقهم تأصيل الحضور العلمي والمنهجي والميداني للتراث فى كل المجالات؛ وساهم مساهمة أصيلة وعميقة فى إحداث الربط الضروري واللازم بين حضور هذا التراث فى ذاته وبما يستلزمه من جهود الجمع والتوثيق والتدوين والتصنيف والأرشفة، وجعل هذا التراث حيا ومتجددا ومعاصرا ومنجما زاخرا فى خدمة الباحثين والدارسين والمبدعين يستلهمون منه ويوظفون عناصره ويجددون شبابه ليتحقق فى النهاية المثال الحي والساطع على ما نطلق عليه «تزاوج الأصالة والمعاصرة». بالغة العزة والشرف والقيمة والفن أيضا. فى معرض تقديمه القيم لهذه الموسوعة، يقول الباحث وأستاذ الفولكلور المعروف الدكتور مصطفى جاد؛ عميد المعهد العالي للفنون الشعبية فى مصر، إن أدبنا الشعبي الزاخر يحفل بمئات العناصر عن الكائنات الخرافية، فقصص ألف ليلة وليلة والسير الشعبية والحكايات والقصص الخيالية.. إلخ جميعا بلا استثناء تحفل بحمل صور متعددة للكائنات الخرافية؛ وهي هنا كما يقول مؤلف الموسوعة تقوم بأدوار درامية فى كل عمل؛ ويضرب لنا مثالا بشخصيتي؛ «عاقصة» و«عيروض» الجنيين فى سيرة سيف بن ذي يزن، وهما من أشهر الشخصيات التي قامت بدور بطولي فى مساعدة البطل ضد أعداء الإسلام. أما الحكايات الشعبية الخرافية خاصة، فجميع أبطالها من الكائنات الخرافية، وتحمل رموزا متعددة كما تحمل دورا تربويا وأخلاقيا مرتبطا بالأطفال. وقد حظيت هذه الموسوعة الرفيعة باهتمام الدوائر العلمية والثقافية ليس فى عالمنا العربي وحده بل وفى الدوائر العلمية والثقافية فى العالم أجمع، فقد ترجمت إلى لغات عدة؛ منها الإنجليزية والفرنسية، والإسبانية والبرتغالية، والإيطالية والروسية والهندية، وقد رجع إليها واعتمد عليها فى كتابة أعمالهم البحثية عدد من الكتاب والباحثين الغربيين. هذه كلمة سريعة وفى عجالة عن واحد من أعمال عبد العزيز المسلم جامعا ميدانيا وباحثا فولكلوريا من طراز رفيع، وسيكون لنا وقفات أخرى مطولة مع جوانب أخرى وأعمال أخرى لرجل التراث العربي لهذا العام. ومن ضمن أبرز وأهم فعاليات أيام الشارقة التراثية تلك الإصدارات الجديدة التي يضطلع بها إدارة المحتوى والنشر بمعهد الشارقة للتراث بإدارة وإشراف الدكتور منى بونعامة الذي صار اسمه علامة وأيقونة لنموذج عربي شاب نا نجاحات باهرة وإنجازات ظاهرة على المستويين ومتميز حقق الأكاديمي العلمي المنهجي والإداري المؤسساتي وليستحق فى النهاية أن يتوج بأرفع جوائز الدولة الموريتانية جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الإنسانية (التاريخية) عن واحد من أعماله التاريخية المميزة. ولا بد هنا من كلمة تعرف بمشروع النشر بمعهد الشارقة للتراث وما تحقق منذ ظهوره حتى الرىنلة تمثل إصدارات معهد الشارقة للتراث رافدا مهما من روافد الثقافة الشعبية العربية، خاصة فى الأعوام الستة الأخيرة، بعدما راكمت عددا من العناوين المهمة والدراسات الرصينة التي تغطي جوانب من الثقافة الشعبية الزاخرة، فى إخراج أنيق وطباعة فاخرة، فضلا على موضوعاتها الغنية والمتجددة. فضمن أنشطته وبرامجه الأكاديمية والعلمية، أصدر معهد الشارقة للتراث، وتحديدا إدارة المحتوى والنشر إحدى أنشط الوحدات التابعة لمعهد الشارقة للتراث عددا وافرا من الكتب والمجلات والمطبوعات المتنوعة التي تعنى بعالم التراث، خلال الأعوام الأخيرة، ستجد لها مكانة لدى الباحثين والمختصين والقراء، (وهي متوافرة فى المكتبات عموما وفى مكتبة المعهد «مكتبة الموروث» خصوصا). وبحسب الافتتاحية الثابتة فى صدر كتب معهد الشارقة للتراث (كتبها عبد العزيز المسلم رئيس المعهد)؛ فإن الهدف من اضطلاع معهد الشارقة للتراث بهذه الإصدارات هو المساهمة فى «رفد الساحة الثقافية بنخبة مختارة من الإصدارات المتخصصة فى التراث الثقافى، التي من شأنها ى هض بمستوى الدراسات البحثية والكتابات المتخصصة». مطالعة عناوين الإصدارات ومحتواها المعرفى والثقافى، يتبدى حرص «الشارقة للترات» على أن يكون له حضور كبير ودور مميز فى عملية النشر والتأليف وإصدار المطبوعات والكتب التي تعني بشؤون التراث عموما، والتراث الشعبي خاصة، بموازاة الوعي بأن التراث الثقافى بحاجة إلى سلسلة كبيرة من الكتب والموسوعات والمستلات الرصينة، المبنية على مناهج بحث المعلومة، كي تتمكن من تقديمه إلى الأجيال الجديدة، ثم إعادة تقديمه إلى العالم. ثمة عناوين فرضت حضورها، فى الأعوام الأخيرة لأهمية موضوعها علميا وفولكلوريا (كتابا محمد حسن عبد الحافظ مثلا «فى مدنية الثقافة ومرجعيتها الشعبية»، و«السرد والجنوسة فى سيرة بني هلال»)، أو لتجدد الحاجة إليها فى مناسبات احتفائية أو بحثية (مثل «جحا العربي» لمحمد ب النجار و«جحا النوبي (علينتو)» لسحر جبر محمود أو «محمد رجب النجار مدرسة عربية فى التراث الشعبي» وسلسلة كتب عن حضور قصص الحيوان فى التراث العربي أو سرديات البحر فى التراث العربي… إلخ) أو لاعتبار خصوصية المادة أو طرافتها التي تستدعي مجهودا لافتا لإعدادها ونشرها (مثل كتاب الباحثة الجزائرية مريم بوزيد سبابو «غضب دوغيه؛ طقوس عاشوراء فى أقصى الجنوب الجزائري»).. إلخ، وهذه مجرد أمثلة. عام على تدشين «عالم التراث» يلفت النظر فى إصدارات الشارقة للتراث، بالإضافة إلى الإخراج فائق الجودة، والعناية الفنية الرفيعة الملازمة لكتبها، المراوحة بين خطين متوازيين فى هذه الكتب؛ الأول إعادة إصدار كنوز من الدراسات التراثية التي لم يعد طبعها منذ سنوات طويلة، وبات من الصعب أن إعادة طبعها مرة أخرى، وفى هذا المسار تضطلع سلسلة «عالم التراث» التي جرى تدشينها فى يناير منذ العام ٢٠٢٢ بدورها على أكمل وجه وصدر منها عشرة كتب كاملة وهناك خمسة كتب أخرى قيد النشر فى الفترة القليلة القادمة. والمسار الثاني عدم إغفال الدراسات الحديثة أو الكتب التي أنجزها باحثون معاصرون وتنشر للمرة الأولى. للتدليل على المسارين السابقين، يمكن الإشارة بقليل من التفصيل إلى ما حققته السلسلة فى المسار الأول، فهذه السلسلة التي جرى تدشينها بالشارقة تبتغي بالأساس إعادة نشر أهم وأبرز بل أندر الدراسات التراثية التي تتناول التراث المادي واللا مادي على السواء، وتعتني بشكل خاص بذخائر الدراسات الحديثة والمعاصرة التي أنجزت فى حقول التراث والمأثورات الشعبية. يقول محرر السلسلة؛ فى توصيفه لهذا الهدف «تصدر السلسلة عن معهد الشارقة للتراث؛ وتعنى بإعادة إصدار كنوز وروائع الدراسات التراثية والثقافة الشعبية المؤلفة والمترجمة بمعدل كتاب واحد شهريا؛ تصدر فى قطع موحد وبشعار ثابت «عالم التراث» ونأمل أن تلبي السلسلة الجديدة احتياجات الباحثين والمختصين والمهتمين عموما بحقل الدراسات التراثية والمأثورات الشعبية وإثراء المكتبة العربية بعناوين ودراسات ممتازة أنجزها صفوة العقول المتخصصة فى التراث. وتبتغي هذه السلسلة من الإصدارات عرض كنوز تراثنا الزاخر مما هو مطبوع فى كل مجالاته وتخصصاته الشهيرة (أدب؛ شعرا ونثرا، تاريخ، جغرافيا وخرائط، رحلات، تراث شفاهي، تصوف، تراجم وطبقات، العلوم النقلية الشهيرة؛ سير وتراجم، تاريخ المدن، أعلام البلدان، نصوص سمر وحكايات وخرافات… إلخ)». من بين أهم وأبرز العناوين التي صدرت فى إطار كتب عالم التراث»؛ «أدب السيرة الشعبية» فى جزئين لفاروق خورشيد، و«القصة العربية القديمة» لمحمد مفيد الشوباشي، و«الخيال الشعبي فى التراث العربي» لعبد العزيز الأهواني، و«الخيال فى الشعر العربي» لأبي القاسم الشابي، و«الحوار بين الشرق والغرب فى ضوء الثقافة الشعبية» لخالد أبو الليل، و«التراث كيف نفهمه وكيف نحييه؟» لزكي نجيب محمود، و«المأثورات الشعبية الحاضر وآفاق المستقبل» للدكتور أحمد مرسي، وغيرها. وسآخذ نموذجا واحدا من بين هذه الإصدارات المهمة؛ وهو فعاليات أيام الشارقة الكتاب العاشر الذي تم إطلاقه ضمن التراثية الأسبوع الماضي، وهو كتاب «الحوار بين الشرق والغرب فى ضوء الثقافة الشعبية» للدكتور خالد أبو الليل، أستاذ الأدب الشعبي بكلية الآداب جامعة القاهرة، ووكيل الكلية لشئون الطلاب وخدمة المجتمع. وهو واحد من جيل الشباب النابه الذي تلقى تدريبه المنهجي والميداني على يدي أكبر أساتذة التراث والأدب الشعبي (أستاذه المباشر الذي أشرف عليه فى أطروحتي الماجستير والدكتوراه المرحوم الدكتور أحمد علي مرسي)، واستطاع فى غضون عقدين أو يزيد قليلا أن يكون ضمن زمرة الأساتذة المتخصصين المعروفين المرموقين فى هذا المجال، وأن يرفد المكتبة العربية عامة والمكتبة التراثية خاصة بدراساته وأبحاثه وكتبه التي عالجت موضوعات متفرقة ومتنوعة فى دائرة المأثورات الشعبية عامة والأدب الشعبي خاصة. وهذا الكتاب يمثل إضافة حقيقية للمكتبة العربية فى ضوء النظرة الإنسانية التي يتطلع إليها البشر جميعا لوصل الثقافات وتفاعل الحضارات والعمل على المشترك الإنساني وتنميته والارتقاء به ليكون منصة تحضر حقيقي، وفى هذا الإطار يبزغ دور التراث ودراسته والإحساس بقيمته فى كل الأمم والثقافات والعمل بجهد ودأب على التعاون والتواصل للحفاظ عليه وصونه وتنمية الوعي به وبقيمته، ولا أدل على هذا النشاط من صدور هذا الكتاب ضمن هذه السلسلة عن معهد الشارقة للتراث الذي صار اليوم ودون مبالغة أو تواضع أهم مؤسسة عربية معنية بالتراث وتوثيقه ودرسه وصونه وضمن المؤسسات الكبرى الأهم فى العالم فى هذا المضمار. يقول محرر السلسلة فى تقديمه بين يدي هذا الكتاب «إنه لمن دواعي الفخر والاعتزاز أن نقدم بين أيديكم ولكم هذه الدراسة الممتعة فى حضرة ومحبة تراثنا، اعتزازا وفخرا به وتقديرا لدوره وأثره ودعوة أيضا لمد آفاق التعاون العلمي المثمر بين الثقافات والشعوب المختلفة انطلاقا من احترام الخصوصيات الثقافية والانفتاح بمحبة وثقة على التنوعات المختلفة لثقافات الأمم والشعوب والأخرى». الاصدارات.. قائمة حافلة تفصيلا، أصدر معهد الشارقة للتراث خلال السنوات الماضية، عددا من الكتب والمطبوعات والمجلات التي تعنى بعالم التراث، تجاوزت الـ ٢٠٠ كتاب، وهو رقم مذهل بكل المقاييس بالنظر إلى الفترة الزمنية المحدودة التي ظهرت فيها هذه الإصدارات من بين تلك الاصدارات كتاب «حضارة العرب ومراحل تطورها عبر العصور»، للدكتور أحمد سوسة، وكتاب «نواخذة فى جنوب الجزيرة البحرية، معارفهم الملاحية ورحلاتهم، للباحث الدكتور عادل أحمد الكسادي، وكتاب «علوم الإسلام إبداعات واكتشافات مغتصبة»، للدكتور خالد حربي، وكتاب «حكايات مولانا جلال الدين الرومي»، للباحث إبراهيم بشمي، وكتاب «الثقافة الشعبية»، لرئيس المعهد الباحث عبد العزيز المسلم، وكتاب «الشارقة وتوابعها قبل النفط»، للبا المرحوم عمار السنجري، والتاريخ الشفوي، للسنجري وكذلك أصدر المعهد له ذاكرة الصحراء، ورحلة إلى أرمينيا فردوس آسيا المنسي. أيضا ظهر عن معهد الشارقة للترات طبعة جديدة من الترجمة العربية لكتاب كلود ليفى شتراوس الشهير «الأسطورة والمعنى» بترجمة الدكتور شاكر عبد الحميد. وكتاب «فتنة السرد مقاربات نقدية فى السرد الحكائي العربي» للدكتور صالح هويدي، والذي يقدم فيه مؤلفه محاولة نقدية لقراءة نصوص حكائية قديمة انطلاقا من النصوص السردية الحكائية نفسها، لمقاربتها مقاربة نصية «فى شيء من الحنو والتدبر والإنصات لصوتها، مع الصبر فى التأمل والاستنطاق وصولا إلى ما كنا نأمله من وراء ذلك». كما صدر عن المعهد كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان Arabic Contribution To The Swahili Language مسن تأليف Rustam Kubwa كما صدر عن معهد الشارقة للترات، عدة مجلدات للتراثية، تلك النشرة التي تواكب كافة تفاصيل وفعاليات وأنشطة أيام الشارقة للتراثية فى دوراتها خلال الأعوام الأخيرة، وجاءت هذه المجلدات حافلة بكافة الفعاليات والأحداث والأخبار التي عاشتها الشارقة